وفقا للمعايير الاقتصادية التقليدية والسائدة تحديدا في أسواق العملات والمضاربة عليها، تبدو الزيادة الحادثة في سعر العملة الافتراضية "البيتكوين" خارج إطار تلك القوانين الاقتصادية.
فقيمة "البيتكوين" ومنذ بعض الوقت في تحسن ملحوظ، لكنها باتت الآن تحقق قفزات سعرية، يصعب بالنسبة لكثير من الاقتصاديين والخبراء في مجال العملات أن يجدوا لها تبريرات منطقية تتفق مع قواعد علم الاقتصاد.
وربما يكمن ذلك الوضع في أن سعر العملة الافتراضية تجاوز الآن سعر أونصة الذهب، وتجاوز سعر العملة حدود 2200 دولار، وهو سعر غير مسبوق في سوق العملات، لتواصل "البيتكوين" تحطيمها للأرقام القياسية التي تحققها، لتثبت للجميع تفوقها على ذاتها.
ولاشك أن وضع تلك العملة الافتراضية، وتلك الزيادة المفرطة في أسعارها، طرح عديدا من الأسئلة حول الأسباب التي أدت إلى هذا الارتفاع أخيرا؟ وهل الارتفاع السعري هذا طبيعي أم مصطنع؟ وهل هي ظاهرة طارئة أم دائمة؟ وهل حان الوقت للتخلي عن الاستثمار في الذهب والعملات التقليدية والاتجاه إلى "البيتكوين"؟ والى أي مدى ستكون العملات الافتراضية ومن ضمنها "البيتكوين" عملة المستقبل؟
ريتشارد باري الباحث البريطاني في مجال تاريخ العملات يعتقد أن من الصعب وضع أحكام قاطعة بشأن مستقبل "البيتكوين"، لكنه يميل إلى أن العملة الافتراضية ستشهد ارتفاعا سعريا مستقبلا دون أن يحدد السقف السعري الذي ستقف عنده.
ولـ"الاقتصادية" يقول "السعر الحالي يعكس إلى حد كبير العرض والطلب السائدين حاليا في الأسواق، ولكن علينا أن نتذكر أن "البيتكوين" عملة افتراضية، ولذلك يحكمها قواعد مختلفة نسبيا عن عملات مثل الدولار واليورو والاسترليني، فعلى سبيل المثال لا يعني سرقة بنك إنجلترا مثلا أن ينهار سعر الاسترليني، لأن العملة البريطانية ترتبط بمجمل قدرات اقتصاد المملكة المتحدة، العملات الافتراضية على العكس من ذلك إذا تعرضت مواقع إصدارها لعملية اختراق أو سرقة فإن ذلك كفيل بانهيارها سعريا، وهذا حدث من قبل لـ"البيتكوين" عام 2013.
ويضيف أن "البيتكوين" تتمتع بوضعية مميزة بين العملات الافتراضية فهي تحتكر قرابة 50 في المائة من القيمة الإجمالية لتلك العملات، فمن قيمة إجمالية تراوح بين 70 و75 مليار دولار لمجمل العملات الافتراضية تحظى "البيتكوين" بنحو 35 مليار دولار، وفي الحقيقية فإنها كانت تحظى بنسبة أكبر في الماضي من إجمالي القيمة السوقية للعملات الافتراضية، لكن العملات الأخرى زادت قيمتها.
وأشار إلى أن المضاربين في سوق العملات يقدرون مقدار الزيادة في العملة الافتراضية "البيتكوين" منذ بداية العام بنحو 124 في المائة، وبنحو 400 في المائة خلال الـ12 شهرا الماضية، وتقارن بعض المواقع الاقتصادية بين العملة الافتراضية والمتوسط السعري لبعض المؤشرات الاقتصادية، فعلى سبيل المثال استثمار 100 دولار في عملة "البيتكوين" في منتصف عام 2010 يعني أن تبلغ قيمة استثماراتك في الوقت الراهن 3.5 مليون دولار، بينما كان استثمار ذات المبلغ في أسهم خاضعة لمؤشر S&P 500 أن القيمة الإجمالية خلال نفس الفترة لن تتجاوز 250 دولارا فقط.
ومع هذا يظل السؤال لماذا تواصل أسعار "البيتكوين" في الارتفاع؟ روبرت ويلسون الخبير في العملات الإلكترونية الذي سبق أن تنبأ لـ"الاقتصادية" بأن سعر عملة "البيتكوين" سيواصل الارتفاع، وأنه سيصل إلى 3000 دولار قبل نهاية العام، يرصد مجموعة عوامل رئيسة وراء الارتفاع الراهن للعملة الافتراضية.
وأولى العوامل وراء الارتفاع أنه لسنوات ظل البعض ينظر إلى العملات الافتراضية على أنها لا تعني شيئا في عالم الاقتصاد، وأنها واحدة من تقليعات أو صيحات الأشخاص المهووسين بالكمبيوتر وبالعالم الافتراضي، إلا أن تلك الرؤية تغيرت كثيرا في السنوات الأخيرة، والآن كثير من المستثمرين ينظرون إلى العملات الافتراضية باعتبارها أصلا استثماريا، وتستخدمها صناديق التحوط كأصول استثمارية
وثاني العوامل أن بعض المستثمرين يعتبر العملات الافتراضية عامة و"البيتكوين" خاصة أصلا كالذهب، أي ملاذا آمنا للقيمة، وقد أثبتت العملات الافتراضية نجاحها في هذا المضمار، خاصة في ظل أزمة اقتصادية كالتي تعانيها البرازيل أو انخفاض سعر الدولار في الولايات المتحدة.
في حين تتمثل ثالث العوامل في ارتفاع قيمة "البيتكوين" أنه جاء كرد فعل لارتفاع قيم العملات الافتراضية الأخرى مثل ليومنز و إثريوموليتسوان، فتلك العملات يمكنك شراؤها بالدولار، لكن يمكن أيضا شراؤها بـ"البيتكوين"، التي تعد أسهل عملة افتراضية يمكن امتلاكها، وهذا يعني أن بعض الأفراد يقوم بشراء "البيتكوين" لاستخدامها في شراء العملات الأخرى ما يعني زيادة الطلب عليها.
أما رابع العوامل الرئيسة المتسببة في ارتفاع العملة الافتراضية، أنه منذ شهر أبريل الماضي بدأت القوانين التنظيمية في اليابان، في التخلي عن القوانين المجرمة لاستخدام "البيتكوين"، والسماح باستخدامها في النظام المصرفي، وهذا أدى إلى ازدهار الطلب الياباني على العملة الافتراضية.
وخامس العوامل تتمثل في أن في الصين كانت هناك علاقة مركبة من الحب والكراهية بين السلطات المالية وعملة "البيتكوين"، ولكن في الآونة الأخيرة باتت السلطات المالية أكثر تسامحا مع العملة الافتراضية، وهذا أدى إلى انخفاض كبير في أسعار "البيتكوين" بين البورصات الأمريكية والصينية، ويعني هذا أن الاستثمار في "البيتكوين" في الصين بات أقل خطورة، وبذلك يمكن القول إن الطلب الآسيوي قام بدور محوري في زيادة أسعار العملة الافتراضية.
أما سادس العوامل فمرتبط بالعامل النفسي وهذا عامل شديد الخطورة، وآخذ في التأثير المتزايد على الاقتصاد الدولي، حيث نجح "البيتكوين" في توليد حالة من الانفعالات العنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي ولدت موجات ارتدادية من زيادة الطلب من قبل فئات استثمارية لم تكن معتادة على الاستثمار في العملات الافتراضية.
ويقول روبرت ويلسون "على الرغم من وجود عوامل تدفعنا إلى الحذر من تعرض "البيتكوين" للانهيار أو التراجع، إلا أن أغلب التوقعات الراهنة تنصب في أن الطلب عليها خلال الأشهر المقبلة سيواصل الارتفاع خاصة مع نقص المعروض منها".
ويعتقد البعض أن الزيادة الراهنة في أسعار "البيتكوين" وغيرها من العملات الافتراضية، سيوجد حتما نقاشات اقتصادية مثيرة للاهتمام داخل الأروقة الحكومية حول هل تواصل السلطات الحكومية والمالية في عديد من بلدان العالم القيود المفروضة حاليا على تلك العملات بل ومواصلة أساليب المنع التي تبنتها في مواجهة العملات الافتراضية؟، أم أن الوقت حان لرفع هذا الحظر.
ويعتقد هنري سكنر الخبير الاستثماري أن من الصعب في الوقت الحالي وضع تصور عام حول العلاقة بين الحكومات وعملة "البيتكوين"، لكنه يعلق لـ"لاقتصادية" قائلا "الأمر سيتوقف على قدرة الاقتصاد المحلي على التعامل مع العملة الافتراضية، وما يتضمنه التعامل معها من مخاطر ومكاسب في الوقت ذاته، ولذلك سنجد أحيانا قبول تلك العملة من اقتصادات متقدمة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وفي نفس الوقت سنجد أيضا قبول بها من اقتصادات نامية مثل الهند".
ومع هذا فإن بعض المحللين الماليين في بورصة لندن يعتبرون أن النجاح الذي تحققه العملات الافتراضية وفي مقدمتها "البيتكوين" حاليا، لا يعني أنها ستكون عملة المستقبل.
هارفي بنهام المحلل المالي في بورصة لندن يؤكد لـ"الاقتصادية" أن العملات الافتراضية يمكن أن تضارب عليها وتحقق منها أرباحا ضخمة أو خسائر كبيرة، ولكن من المشكوك فيه أن تكون عملة المستقبل.
وحول أسباب هذا الاعتقاد يشير إلى أن التقلبات الضخمة في سعر العملات الافتراضية يجعل من الخطر للغاية اعتبارها عملة مستقبلية، لأنها بذلك توجد حالة من عدم الاستقرار الكلي في الاقتصاد الوطني والعالمي. فعلى سبيل المثال استقرار العملة الوطنية أمر حيوي للبلدان النامية لجذب الاستثمارات، وعدم استقرار العملة يعني أن المستثمر لا يمكنه التنبؤ بدقة بقيمة الأرباح المستقبلية، وعدم اليقين يجعل الاستثمارات أقل قيمة.
ويضيف "خلال الشهر الماضي بلغ متوسط التغيير اليومي في قيمة "البيتكوين" 2 في المائة، وأحيانا تنخفض لكن في الأغلب كانت تسير في اتجاه تصاعدي، وللمقارنة خلال ذات الشهر كان متوسط التغيير اليومي في سعر الصرف بين اليورو والدولار أقل من 1 في المائة، وخلال شهر بأكمله بلغ معدل التغيير 3 في المائة، بينما ارتفع "البتكوين" في شهر واحد بنحو 49 في المائة، وخلال سبعة أيام فقط تغيرت قيمة العملة الافتراضية بأكثر من 3 في المائة أي أعلى من التغيير في قيمة الدولار في شهر كامل".
ويضيف "بالطبع فإن المستثمرين لا يريدون أن تكون الاستثمارات أو الديون المقيمة بعملة ما، أن تتغير خلال شهر بنحو 50 في المائة ارتفاعا أو انخفاضا".
ويؤكد أن سداد المدفوعات عن طريق تلك العملات الافتراضية بطيء للغاية، وهذا يعيق نمو التجارة الدولية، ولهذا يجب التعامل مع العملات الافتراضية كأصول مثل الذهب وليس عملة، وحتى الذهب يمكن استخدامه في صناعة المجوهرات، أما "البيتكوين" فإنها لن تصلح إلا أن يستخدمها الأشخاص لإخفاء ثرواتهم الحقيقية، أو القيام بأنشطة مشبوهة مثل تمويل تجارة المخدرات أو حتى الإرهاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق